أبي بطل خارق و لكن من نوع خاص
دائماً ما تكتب القصائد والأغاني عن الأم و نجد في كل مناسبة الإحتفاء بدورها الذي لا يمكن لأحد أن ينكره فهي القلب النابض الذي يمنحنا الحنان والأمان، ولكن في خضم هذا الإحتفاء يغيب عن أذهان الكثير الحديث عن الاب، هذا العمود الصلب الذي يحمل على عاتقه كل الأعباء دون أن يشتكي والذي يضحي بصحته و راحته ليصنع لنا حياة مليئة بالفرص والاستقرار.
لاينحصر دور الاب في جلب المال و دفع الإلتزامات المالية بل هو رمز القوة والصبر والتفاني، هو الذي يعطينا الأمان في كل لحظة، هو الذي يقف خلفنا مثل السد المنيع من تقلبات الحياة. البنت جسد ضعيف و قلب مرهف عند الأزمات و الشدائد تقف خلف ظهر أبيها لتحتمي به وتضع كل همومها على عاتقيه وتسنح لها الحياة في اخذ إستراحة قصيرة لاستجماع قواها مرة أخرى، لكن الأب لا يمتلك رفاهية الراحة و الإنسحاب فإن نظر خلفه يرى من يراهن على صلابته و شجاعته للأخذ بأيديهن صعوداً مرة أخرى.
لولا وجود الاب، المسؤول المضحي المتفاني، لخرب المجتمع و تدهور حاله من صغيره لكبيره، فهو الذي يغرس فينا القيم والمبادئ بأفعاله اليومية التي تظل محفورة في أذهاننا وإن لم يدرك ذلك. في كثير من الأحيان نأخذ وجوده أمر مسلم به دون أن نفكر في كم التحديات والتضحيات التي يقدمها في الخفاء. كم مرة عاد إلى المنزل متعباً دون أن يظهر تعبه؟ كم مرة وضع احتياجاتنا فوق احتياجاته؟ آن الآوان لنسلط الضوء على هذا الجندي المجهول ونتحدث عن فضله و دوره العظيم.
عندما كنت صغيراً كنت أعتقد أن الأبطال الخارقين هم فقط هؤلاء الذين يرتدون الأزياء الغريبة و يحلقون في السماء ومع مرور السنوات أكتشفت أن الاب هو البطل الحقيقي الذي لايحتاج لقوى خارقة ليترك أثراً لا يمحى فهو بطل من نوع خاص لنستعرض معاً بعض من هذه القوى:
إصلاح أي شئ و كل شئ مهما كان معقداً أو يبدو غير قابل للإصلاح فإن أبي دائماً لديه الحل و مهما بدت الأدوات التي يستخدمها غريبة إلا أن النتائج دائماً مذهلة، و لكن الحقيقة أن ما يصلحه أبي ليس فقط الأجهزة بل يصلح أيضاً القلوب حين تحزن و الأرواح حين تتعب، الأب يبدو صارماً و قوياً من الخارج و لكن من داخله قلب يفيض حناناً، كيف كان يسهر بجانبي طوال الليل يحاول بكل الطرق أن يخفف عني؟ كل ما كان يهمه أن أكون بخير، في أبسط المواقف إذ شعر أنني بحاجة إلى شيء حتى دون أن أطلب، أجده قد جهزه لي و كأنه يقرأ أفكاري.
أما عن شجاعته فهي تمتد لمواقفه اليومية فهو لا يخشى قول الحق مهما كانت العواقب و من أعظم الدروس التي تعلمتها منه هو قيمة الإحترام، هو دائماً يعامل الجميع بلطف الصغير قبل الكبير والضعيف قبل القوي وانعكس هذا في تربيتنا فهو لا يفرض علينا أي شئ بالقوة، حرصه الدائم على الاتصال مراراً لكي يطمئن قلبه كأنما يريد مشاركتنا في كل لحظات الحياة.
إذا اردت أن تعرف ماذا يعني أن يكون لديك نظام GPS بشري فعليك أن تجرب السفر مع أبي فهو دائماً يعرف الطريق حتى وإن لم يذهب إلى هذا المكان من قبل، أثناء السير في الطريق يقرر أبي إتخاذ طريق مختصر غير موجود على الخرائط و مع ذلك يبدو واثقاً جداً بالطبع ينتهي بنا الأمر في مكان مختلف تماماً و لكنه يظل مبتسماً و يقول -لا تقلقوا نحن نستكشف و المتعة في الرحلة و ليس في الوصول-.
المضحك في الأمر أن مهما حاولت أن أخفي شئ عن أبي فلا جدوى، لديه قدرة غريبة على الشعور بأي خطأ يحدث في المنزل، إذا قررت يوماً السهر قليلاً و فتح التلفاز للتسلية ستجده فجأة يقف خلفك و يسألك ماذا تفعل؟ كيف يفعل هذا لا أحد يدري و لكنه دائماً موجود في اللحظة المناسبة، أبي لديه القدرة على تحويل الفشل إلى درس ممتع حينما أمر بموقف صعب أو أشعر بالإحباط يكون أبي أول من يرفع معنوياتي و يغدق على مسامعي جملته الشهيرة -من لم يفشل لم يتعلم-.
إذا كنت تواجه مشكلة و لا تجد حلاً لها فقط إجلس مع أبي سيقترح عليك حلولاً لا تخطر على بال أحد قد تكون هذة الحلول غريبة في البداية و لكنها دائماً ما تنجح بطريقة ما، على سبيل المثال تعطلت دراجتي ذات مرة و قرر أبي تثبيت أحد أجزاءها المكسورة بمشبك غسيل و كانت النتيجة مذهلة. على الأقل لفترة قصيرة، أبي لا يحتاج إلى الصراخ أو الجدال ليثبت وجهة نظره يكفي أن ينظر إلينا تلك النظرة الحادة التي تحمل في طياتها التحذير والجدية.
في كل مرة أفكر فيها في أبي أدرك أن الأبطال الحقيقين ليسوا بحاجة إلى قوى خارقة، بل يكفي أن يكون لديهم قلب كبير و عقل مبتكر. أبي هو البطل الذي لا نراه على شاشات السينما، يا أول من عرفت منه معنى القوة و أول من علمني كيف أواجه الحياة دون أن أنحني كنت دائماً السند الذي لم يتخل عني و الضوء الذي يهديني في كل لحظة ضياع. كلما نظرت إلى وجهك المرهق رأيت في ملامحك قصصاً من التضحية و الصبر، كيف لي أن أوفيك حقك و أنت الذي جعلت حياتي سهلة بينما كانت حياتك مليئة بالصعاب؟
أكتب هذه الكلمات و أعلم أن كل الحروف عاجزة عن وصف ما في قلبي أحياناً أغفل عن شكرك و لكن صدقاً كل دعوة في صلاتي تتجه نحوك، أدعو الله أن يطيل في عمرك و إن كتب لي يوماً أن أكون نصف ما كنت أنت عليه فسأكون أعظم من ما أتمنى. أبي البطل الذي لا يتكرر والحب الذي لن يزول. إن كانت المرأة نصف المجتمع فالرجل (الاب) كل المجتمع. هذه ليست مجرد مقالة عابرة بل هي رسالة إمتنان لكل الآباء الذين يزرعون بذور الحب والقوة في حياة أبنائهم وفي مقدمتهم -أبي- بطلي الخارق.
لا يوجد تعليقات