أعمار تتبدل و أزمنة تتحول
في رحلة الزمن الممتدة عبر القرون، كان عمر الإنسان يتباين بين حقبة وأخرى. تأملاتنا في أعمار البشر من زمن النبي نوح عليه السلام، الذي عاش قرابة الألف عام، إلى أعمارنا اليوم التي نادراً ما تتجاوز المائة، تثير فينا أسئلة عميقة عن سر هذا التباين. كيف ولماذا تغيّرت أعمار البشر؟ وما الحكمة الربانية من هذا التغيير؟ إن تأمل هذه المسألة يقودنا إلى استشعار عظمة الله في تدبيره، ورحمته في تقدير الأعمار بما يناسب كل عصر. سنغوص معًا في رحلة بين النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ونتأمل في الأسباب العلمية والاجتماعية التي أثّرت في متوسط عمر الإنسان، ونستكشف كيف أن كل لحظة من أعمارنا هي فرصة لتقويم أعمالنا والتقرب إلى الله. عندما نرجع إلى قصص الأنبياء والرسل، نجد شواهد كثيرة على طول أعمار البشر في العصور القديمة. قال الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام:
الفهرس
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا” (العنكبوت: 14).
نوح عليه السلام عاش 950 عامًا يدعو قومه إلى الله، فما بال أعمار قومه؟ لقد كانوا أيضًا من المعمّرين، مما يدل على أن طول العمر كان سمةً مميزة لذلك الزمن. الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئًا عبثًا، فكما أن طول أعمار البشر في السابق كان جزءًا من حكمته، فإن تقصيرها اليوم له حكمة أيضًا. الأعمار الطويلة كانت وسيلة لاختبار البشر، إذ أن امتداد الزمن يزيد من فرص الإنسان في الهداية أو الغواية.
في العصور القديمة، كانت الأرض بكرًا، والتلوث غير موجود، مما هيأ بيئة صالحة لامتداد الأعمار. الإنسان في ذلك الوقت كان بحاجة إلى وقت أطول لاكتساب المعرفة وبناء الحضارات. مع مرور الزمن، بدأت أعمار البشر تتناقص تدريجيًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك.” (رواه الترمذي وابن ماجه).
هذا التقدير النبوي لأعمار الأمة الإسلامية يعكس واقعنا اليوم، حيث يُعد الوصول إلى السبعين عامًا عمرًا مديدًا.
الأسباب العلمية لتناقص الأعمار:
التغيرات البيئية:
مع التقدم الصناعي وازدياد التلوث، تأثرت صحة الإنسان وأصبحت الأمراض المزمنة أكثر انتشارًا.
النمط الغذائي:
الأطعمة المصنعة والمشبعة بالمواد الحافظة أضعفت المناعة الطبيعية للإنسان.
التوتر والضغوط النفسية:
الحياة المعاصرة المليئة بالضغوط أثرت بشكل مباشر على صحة القلب والجهاز العصبي.
إن تقصير الأعمار في العصر الحالي ليس مجرد ظاهرة بيولوجية، بل هو أيضًا تذكير للإنسان بضرورة استغلال وقته فيما ينفع. يقول الله تعالى
: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات: 56)
فالإنسان مهما قصر عمره، يمكنه أن يحقق الكثير من الخير إن أحسن استثمار وقته في طاعة الله والعمل الصالح.
الحكمة من قِصَر الأعمار:
الرحمة بالإنسان:
الأعمار القصيرة قد تكون رحمة من الله، فالحياة الطويلة ليست دائمًا نعمة، فقد تكون وبالًا إن كانت مليئة بالمعاصي.
التذكير بالفناء:
قصر العمر يذكر الإنسان بحقيقة الموت ويحثه على الاستعداد للآخرة.
التحفيز على الإنجاز:
يعلم الإنسان أن وقته محدود، فيسعى لاستغلاله بأفضل صورة.
كيف نطيل أعمارنا بالأعمال الصالحة؟ على الرغم من أن أعمارنا الزمنية محدودة، إلا أن هناك أعمالًا يمكن أن تضاعف من بركة أعمارنا وتُكتب لنا بها حسنات لا تنتهي مثل الذكر والدعاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
“من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه.” (رواه البخاري ومسل
م).
الصدقة الجارية: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.” (رواه مسلم).
العلم النافع: كل علم ينشره الإنسان في الخير يظل أجره جاريًا.
بر الوالدين وصلة الرحم: من أعظم ما يبارك الله به في عمر الإنسان.
ختــاماً ..
حين نتأمل في اختلاف أعمار البشر بين الماضي والحاضر، نشعر بمدى رحمة الله وحكمته في تدبير شؤون خلقه. الأعمار ليست مجرد أرقام، بل هي صفحات نكتب عليها أعمالنا. كل لحظة من حياتنا هي فرصة للتوبة، فرصة للعطاء، وفرصة للاقتراب من الله. فلنحمد الله على كل يوم يُضاف إلى أعمارنا، ولنستثمره فيما يرضيه. فقد تكون أعمارنا قصيرة، لكن بأعمالنا الصالحة نترك أثرًا لا يزول.
“وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌۢ بِأَيِّ أَرْضٍۢ تَمُوتُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان: 34).
لا يوجد تعليقات