هل فكرت يوماً في سبب تسمية الأكلات الشعبية المصرية باسمائها الغريبة؟ هل هي مجرد كلمات عابرة أم أن وراء كل اسم حكاية قديمة؟ كل أكلة تحمل في طياتها أكثر من مجرد وصف لمكوناتها، كل اسم في الحقيقة مفتاح باب من أبواب التاريخ التي قد تكون حدثت في يوم من الأيام و تكشف لنا عن التأثيرات الثقافية المخالفة التي تمر بها البلاد. من الكشري الذي يدمج بين مكوناته البسيطة ليشكل طبقاً شعبياً إلى الملوخية التي تعتبر رمزاً للأصالة المصرية.
رغم غزو الوجبات السريعة بيوتنا و حلولها على رأس قائمة الأطباق المفضلة الأكثر طلباً من أفراد الأسرة، إلا أن الجدات و الأمهات لازلن يشعرن بالفخر عندما يسألهن أحدهم عن طريقة إعداد إحدى هذه الأكلات الشعبية التقليدية و كأنها تمتلك كنزاً من المعلومات الثمينة، و لا يمكن إنكار أننا نحن أحياناً كثيرة إلى تلك الأكلات الشعبية الموروثة التي تذكرنا برائحة منزل الجدات و عزومة الغداء و إجتماع الأبناء والأحفاد على طبق ملوخية و داوود باشا وتختم بتحلية بطبق رموش الست.
نبدأ بـ – تاج – السفرة المصرية و هو ( طبق الملوخية ) أكلة الملوك و تحديداً في العصر الفاطمي حيث كانت تسمى ( ملوكية ) وتعني كل ما يخص العائلة المالكة، تقول رواية مصرية أن المصريين القدامى عرفوا الملوخية عندما وجدوا اوراقها تنمو على ضفاف النيل لكنهم لم يقدموا على أكلها ظناً منهم أنها سامة و كانوا يسمونها – خية -، وعندما إحتل الهكسوس مصر أجبروا المصريين على تناولها لإهانتهم و كانوا يقولوا لهم – ملو خية – أي كلوا أوراق الخية و بعد أن تناولوها و لم يتسمموا إكتشفوا أنها صالحة للأكل.
داوود باشا تعود تسميتها إلى أحد الملوك الذي كان يعشق تناول الكفتة و هو داوود باشا عبدالرحمن الوالي العثماني العاشر الذي حكم مصر أيام الحكم العثماني والذي عرف عنه حبه للكفتة و لم تكن متداولة على مائدة المصريين حينها فأدخلها الوالي العثماني من تركيا وأمر طهاته بإعدادها يومياً له و معاقبتهم إذا نسوا طبخها يوماً. لنذهب سوياً إلى طبق المحشي صاحب الحضور الخاص على مائدة المصريين قد عرفوه خلال فترة الحكم العثماني و كان يسمى آنذاك – دولمة – أي الخضروات التي يتم حشوها بخلطة خاصة.
أما عن الكوارع يرى المصريون دوماً أن فوائدها أكثر من أن تعد أو تحصى عرفها المصريون في عهد الملك سخم خت الذي ينتمي إلى الأسرة الثالثة المعروف بعشقه لتجربة أكلات جديدة غير مألوفة، طلب من الطباخ الخاص به أن يبتكر له أكلة شهية فأحضر أرجل العجل وقام بطهيها وتقديمها ونالت رضى الملك وإعتبرها هدية من الإله (رع) و طلب أن تسمى (كارع) بمعنى روح رع.
في طبق البصارة يعد الفول المكون الأساسي مع إضافة بعض المنكهات، قد عرف في عهد الفراعنة بإسم (بيصورو) أي الفول المطبوخ و قد ظهرت تلك الاكلة بغرض التغيير من تناول وجبة الفول المعتادة بشكلها التقليدي فاضافت له إحدى السيدات بعض المكونات و قامت بمزجها حتى إكتسب المزيج اللون الأخضر. إذ إنتقلنا إلى الحلويات المصرية فنجد ان الطبق الأشهر بإسم إمرأة و هو – أم علي -، تعود قصته إلى زوجة عز الدين أيبك التي أجبرت على الزواج منه بعد أن رفض مماليك الشام أن تتولى حكمهم إمرأة و بعد الزواج إكتشفت زواجهم شجرة الدر و هي كانت زوجة عزالدين أيبك الأولى فغضبت جداً و قررت الإنتقام بقتله لتتولى هي حكم البلاد، فقامت أم علي بتدبير مكيدة أطاحت بشجرة الدر ليجلس أبنها على العرش خليفةً لأبيه و إحتفاءاً بهذه المناسبة أمرت أم علي بخلط كل الدقيق مع السكر والمكسرات مع اللبن وتسخينها ثم تقديمها للناس.
أما (صوابع زينب) فقد بدأت حكايتها عند الظاهر بيبرس بعد أن عاد منتصراً من معركة عين جالوت بين المسلمين و المغول، أمر الطباخين بتحضير الحلوى و توزيعها على الشعب و فوجئ بأن هناك نوع جديد من الحلوى على شكل أصابع صغيرة و مذاقه كان طيب للغاية فأمر بإحضار كبير الطهاة لسؤاله عن تفاصيل تلك الحلوى، فإرتبك كبير الطهاة و ظن أنها لم تنل إعجابه و قال أنها (أصابع زينب) نسبة لاسم الطاهية التي صنعتها و أمر بيبرس بصرف مكافآة لها و مع الايام تحولت اسمها باللغة العامية إلى (صوابع زينب).
هناك أسماء أخرى غريبة لأكلات غير متداولة كثيراً و إختلفت الأقاويل في سر تسميتها بتلك الاسماء مثل: الشلولو و مخمخ و السمين و حرقة الأصبع و الطشطاشة و شرقة العجوز و أشتنجوط و غيرها، جعبة الأكل المصري تحمل الكثير والكثير. وفي النهاية، تظل اسماء الأكلات الشعبية المصرية أكثر من مجرد تسميات بسيطة. إنها قطع صغيرة من تاريخ طويل، ومفاتيح لفهم المجتمع المصري من زاوية أخرى. كل اسم هو انعكاس لثقافة، وحكاية، ومزاج شعب يبتكر ويضحك ويعيش. ربما لم يكن المصريون في الماضي يتوقعون أن هذه الاسماء ستظل حية إلى يومنا هذا، تنبض بالحياة على المائدة وتروي لنا قصصًا لا تنتهي. فمن “الكشري” الذي يُعد بمثابة رمز لتنوع الشعب المصري ودمج الثقافات المختلفة، إلى “الملوخية” التي ارتبطت بجذورنا الزراعية والتي كانت لها أهمية خاصة في قلوب المصريين، تظل هذه الاسماء شاهدة على مرحلة معينة من تاريخنا. حتى الأطباق التي نراها بسيطة مثل “الفول” و”الطعمية”، تحمل في طياتها حكايات عن البسطاء الذين حولوا هذه الأطعمة إلى طعام يومي لاغنى عنه.
وربما لم نكن ندرك أن وراء كل طبق، وكل اسم، يكمن سحر خاص يعكس أوقاتًا من الفرح أو من التحدي، ويعبر عن طابع شعبي لا يتكرر. فبينما نأخذ وقتنا في تناول هذه الأطباق، لا بد أن نتوقف للحظة لنسأل: ماذا وراء هذه الاسماء؟ ربما الإجابة تكمن في كل لقمة نأخذها، ففي كل اسم حكاية لم تُحكى بعد، وفي كل طبق تاريخ ممتد، يعكس حياة شعب كامل، بأحلامه وتطلعاته، وأحيانًا حتى ضحكاته التي لن تنتهي.
لا يوجد تعليقات