المال: هل يُقوي الشخصية أم يجعلنا نبحث عن مصحة نفسية؟
لا شك أن للمال مكانة خاصة في حياة الإنسان ويحتل حيزاً كبيراً من خريطته النفسية والاجتماعية ويعود ذلك لصميم فطرتنا في حب تملك الأشياء وحيازتها. فبعض الأشخاص يرون في المال وسيلة للحرية والسعادة، بينما يعتبره آخرون عبئًا ثقيلًا يضر بهم ويغير من طباعهم، المال هو الأداة التي يمكن أن تفتح لنا أبوابًا من الفرص، ولكنه في ذات الوقت يمكن أن يكون سلاحًا يضر بنا إذا لم نعرف كيفية إستخدامه و لكن كيف يؤثر المال في الإنسان؟ وهل يمكن أن يغير شخصيتنا بشكل جذري؟ هل يجعلنا أفضل أم يفسدنا؟
نجد أن بعض القصص الحقيقية تبرز تأثير المال على الشخصيات بشكل ملموس، قصتان بارزتان يمكن أن توضح لنا هذا التأثير: الأولى هي قصة تشاك فيني، والثانية قصة جاك ويتاكر. من خلال هاتين القصتين سنتعرف على مدى تأثير المال في الحياة الشخصية. لنبدأ بتشاك فيني، رجل الأعمال الأميركي الذي جمع ثروته عن طريق تجارة التجزئة، ثم قرر أن يكون البليونير الذي لا يمتلك شيئًا. على الرغم من أن فيني كان يملك مليارات الدولارات إلا أنه اختار أن يعيش حياة بسيطة للغاية لم يقتن سيارات فاخرة ولم يبنِ قلاعًا مترفة. بل اختار أن يركز على العطاء أكثر من الاستهلاك، فيني يعتبر المال وسيلة لتغيير العالم و ليس وسيلة لإشباع رغباته الشخصية فبدلاً من أن ينفق أمواله على متع الحياة قرر أن يستخدمها لدعم التعليم، الصحة، وبناء الجامعات. عندما سُئل عن سر اختياره لهذه الحياة البسيطة قال: – أريد أن أعيش كما لو أنني أملك أقل مما أحتاج – فيني لا يرى المال كغرض بل كوسيلة لتحقيق غاية أسمى. الأموال لن تذهب معه عند الموت لكن الأثر الذي يتركه سيكون هو ما سيظل.
هذه الفلسفة هي التي جعلت فيني واحدًا من أبرز رجال الأعمال الذين حولوا الثروة إلى قوة إيجابية في العالم فهو يرى أن المال ليس فقط للرفاهية، بل يمكن أن يستخدم لتغيير الحياة نحو الأفضل. يعد فيني نموذجًا نادرًا يظهر لنا كيف أن المال يمكن أن يوظف لتحسين الحياة البشرية بشكل حقيقي ومستدام ومع ذلك فإنه لم يكن دائمًا يسير في الطريق السهل. لقد واجه العديد من التحديات، حيث كانت فلسفته في العطاء تتعارض مع النظام الاقتصادي الذي يفضل التراكم الشخصي للثروات. لكنه مع ذلك استمر في مسيرته مؤمنًا بأن هناك شيئًا أعظم من المال وهو إحداث تغيير إيجابي في العالم. قرأت لأحد السلف أن – من إدعى بغض الدنيا أو المال فهو عندي كذّاب، إلا أن يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو مجنون -..
لكن لم يكن المال دائمًا في حياة الآخرين قوة إيجابية، بل أحيانًا يتحول إلى نقمة تلاحق صاحبه. قصتنا الثانية هي عن جاك ويتاكر الذي فاز بجائزة يانصيب ضخمة بقيمة 315 مليون دولار. في البداية كان جاك يعتقد أن المال سيغير حياته للأفضل وأنه سيكون مفتاح سعادته لكنه سرعان ما اكتشف أن الثراء المفاجئ جلب معه سلسلة من المشاكل التي لم يتوقعها. وبدلاً من أن يجد السعادة في المال وجد نفسه محاطًا بالمشاكل والضغوط كان المال يجذب إليه الأعداء والأصدقاء الزائفين والمشاكل القانونية. لقد تحولت حياته من حلم إلى كابوس حيث بدأ في اتخاذ قرارات غير حكيمة بسبب اعتقاده الخاطئ بأن المال يمكنه أن يشتري أي شيء، حتى السلام الداخلي.
تجربة جاك تظهر كيف يمكن للمال أن يفقد الشخص القدرة على التفاعل مع العالم من حوله بشكل طبيعي. بدلاً من أن يصبح المال مصدرًا للفرح أصبح سببًا في تعاسته. فالعلاقات العائلية تفككت والشخص الذي كان يعيش حياة متواضعة أصبح الآن محاطًا بمشاكل لا حصر لها. المال لم يكن مصدرًا للسلام الداخلي بل كان سببًا لتدمير السلام العائلي والنفسي.
إذا عدنا إلى دراسة تأثير المال على الإنسان نلاحظ أن هناك أبحاثًا تشير إلى أن المال يمكن أن يكون عاملًا محفزًا لتحقيق الطموحات لكنه في ذات الوقت قد يؤدي إلى تشوهات نفسية. فالأبحاث النفسية أظهرت أن الأشخاص الذين يمتلكون ثروات ضخمة قد يواجهون تحديات تتعلق بالهوية الاجتماعية والشخصية. في بعض الحالات يضطر الأشخاص الأغنياء إلى العيش في عزلة حيث يصبح المال هو الفاصل بينهم وبين الآخرين. يصبحون في حاجة دائمة لإثبات أنفسهم وإظهار مكانتهم الاجتماعية مما يؤدي إلى ضغوط نفسية تؤثر في حياتهم.
وبينما يظهر العلماء أن المال يزيد من الشعور بالقوة والتفوق فإنه قد يسبب أيضًا تحولات في سلوكيات الأفراد. بعض الأشخاص قد يصبحون أكثر أنانية وعزلة حيث يبدأ المال في التحكم في أولوياتهم وعلاقاتهم. فبدلاً من أن تصبح الثروة وسيلة لتحقيق النجاح الاجتماعي تتحول إلى سبب لإثارة الحسد والمشاكل الاجتماعية. يمكن للمال أن يقلب موازين الحياة إذا كان الإنسان غير قادر على استخدامه بحكمة.
أكثر من ذلك، المال قد يؤثر في طرق التفكير واتخاذ القرارات، الشخص الذي يمتلك المال قد يصبح أكثر ميلاً إلى المخاطرة واتخاذ قرارات متسرعة معتقدًا أن المال يمكن أن يعوض أي فشل وهذه العقلية قد تؤدي إلى اتخاذ قرارات غير محسوبة تكون عواقبها وخيمة. في المقابل الشخص الذي يفتقر إلى المال قد يشعر بعدم الأمان قد يقوم بإتخاذ قرارات صائبة لحماية نفسه و عائلته ويرتب جيداً لحياته و مستقبله.
في نهاية المطاف، المال في حد ذاته ليس هو القضية بل الطريقة التي نتعامل بها معه هي ما يحدد تأثيره على حياتنا. المال يمكن أن يكون أداة لبناء الحياة التي نريدها ولكن يمكن أيضًا أن يصبح عبئًا ثقيلًا إذا لم نعرف كيفية استخدامه. التشبع المفرط في السعي وراء المال قد يؤدي إلى تدمير الروابط الإنسانية التي تهمنا في النهاية. في حين أن القلة القليلة من الأشخاص مثل تشاك فيني استطاعوا استخدام المال لخلق تغيير حقيقي، فإن العديد من الآخرين مثل جاك ويتاكر وقعوا في فخ المال الذي أساءوا استغلاله.
المال ليس هو الشر، ولكن عدم القدرة على التعامل معه بحكمة هو ما قد يؤدي إلى الشر. السعادة لا تكمن في مقدار المال الذي تمتلكه، بل في كيفية استخدامك لهذا المال وما تفعله به. كما يقول أحد الحكماء – المال ليس هو مفتاح السعادة، ولكن طريقة استخدامه هي التي تحدد إذا ما كان سيفتح لك بابًا للفرح أم يغلق عليك كل الأبواب -. فالمال ليس عدو الإنسان ولكن الإنسان هو من يقرر كيف يقدر المال ويعطيه المكانة الصحيحة في حياته. المال يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق النجاح ولكن يجب أن نحرص على أن لا يتحول إلى هدف بحد ذاته، بل إلى أداة لتحقيق الأهداف التي تنطوي على الخير والإنسانية.
إذا كان بإمكانك التحكم في كل قرش تكسبه، هل ستختار أن يكون المال وسيلة لتحقيق أهدافك الشخصية فقط أم أنك ستستخدمه في شيء أكثر أهمية، مثل شراء ماكينة قهوة بمواصفات نادرة تليق بحجم أحلامك؟ أو ربما ستحقق حلمك القديم بشراء تلك السيارة الفاخرة التي كنت تظن أنها ستجعلك (سوبر هيرو) في نظر الجميع؟ هل المال هو من يصنع شخصيتك، أم أن شخصيتك هي التي تحدد كيف تستخدم المال؟.
لا يوجد تعليقات