بحث الرجال عن الكمال في عالم غير كامل
منذ بداية الزمن يحاول الإنسان الوصول إلى الكمال، رغم أنه نفسه مليء بالنواقص والعيوب. أثناء السعي نحو المثالية، يتجاهل الرجال حقيقة أن الكمال مجرد وهم لا يمكن تحقيقه. تعكس أسطورة بيجماليون وجالاتيا هذه الفكرة بعمق، حيث تصور نحاتًا سعى وراء صورة المرأة المثالية، ليكتشف لاحقًا أن الواقع لا يمكن أن يتطابق مع خيالاته. هذه القصة ليست مجرد أسطورة قديمة، بل انعكاس لطبيعة البشر، خاصة الرجال، الذين يبحثون عن كمال غير موجود، بينما تقبل النساء الحياة بكل ما فيها من نقائص. كان بيجماليون نحاتًا بارعًا يعيش في قبرص، ولكنه كره النساء بشدة بعد أن رأى فيهن عيوبًا كثيرة. بدلاً من البحث عن شريكة، قرر أن ينحت بيديه صورة المرأة المثالية التي تخيلها دومًا. صبَّ كل مهاراته وحبه للفن في تمثال من العاج، صنعه بدقة متناهية حتى بدا وكأنه ينبض بالحياة. أطلق على تحفته اسم جالاتيا، وأصبحت هوسه الأكبر. كان يلبسها أفخر الملابس، ويزينها بالجواهر، ويحدثها كأنها إنسانة حقيقية، ناسياً أنها مجرد حجر بارد لا روح فيه. رغم أن قلبه امتلأ بحبها، إلا أن الفراغ بقي يطارده، لأنها لم تكن قادرة على الرد على مشاعره أو مشاركته حياته.
في أحد أعياد أفروديت، إلهة الحب والجمال، قدم بيجماليون قربانًا خالصًا وتمنى في قلبه أن تصبح جالاتيا على قيد الحياة. قد ذكر ف تلك القصه الأسطورية تأثر أفروديت بإخلاصه، ومحاولاتها في مساعدته. عندما عاد بيجماليون إلى ورشته ولمس التمثال، فوجئ بأن العاج أصبح دافئًا، وبأن جالاتيا بدأت تتحرك ببطء، ثم فتحت عينيها ونظرت إليه بحب. تحقق حلمه وأصبحت جالاتيا إنسانة حقيقية، وتزوجها بيجماليون، ظنًا منه أنه حصل على المرأة الكاملة.
في البداية، عاش بيجماليون وجالاتيا في سعادة، لكنه سرعان ما أدرك أن الكمال الذي تصوره لم يكن كما توقع. أصبحت جالاتيا إنسانة حقيقية، بآرائها الخاصة، بأخطائها، وبمشاعرها التي لم يكن يتحكم فيها. لم تعد مجرد قطعة عاج صامتة تخضع لرغباته. شعر بيجماليون بالإحباط، إذ لم يكن يريد امرأة تفكر أو تعبر عن ذاتها، بل أراد كائناً كاملاً وفق تصوراته. تختلف الروايات حول النهاية، فبينما تشير بعض النسخ إلى أنهما عاشا في سعادة وأنجبا ابنًا، هناك روايات أخرى تقول إن بيجماليون طلب من أفروديت أن تعيدها إلى تمثال لأنها لم تكن كما تخيل. هذه النسخة تعكس كيف أن الرجال يبحثون عن الكمال، وعندما يحصلون عليه، يكتشفون أنهم لم يريدوه حقًا.
القصة ترمز إلى رغبة البشر، وخاصة الرجال، في خلق المثالية، غير مدركين أن الحياة لا تكتمل إلا بنواقصها. على عكس بيجماليون، النساء غالبًا ما يتقبلن الرجال بكل عيوبهم، ويستمررن في العيش معهم رغم عدم كمالهم. رغم كل شيء، يظهر أن الحب قادر على تحويل الجماد إلى حياة، لكنه لا يستطيع أن يخلق الكمال المطلق.أثرت تلك القصة الأسطورية على الأدب و الفن حيث ألهمت هذه الأسطورة الكثير من الأعمال الأدبية والفنية، مثل مسرحية “بيجماليون” للكاتب جورج برنارد شو، والتي تحولت لاحقًا إلى الفيلم الشهير “ماي فير ليدي”. كما تكررت الفكرة في العديد من الأفلام التي تتناول العلاقة بين الإنسان والخلق، مثل أفلام الذكاء الصناعي التي تناقش صنع الروبوتات المثالية ثم إدراك أنها ليست كما تمناها صانعها.
ختــاماً.. قصة بيجماليون وجالاتيا ليست مجرد خرافة، بل مرآة تعكس واقع العلاقات بين الرجال والنساء. يبحث الرجال عن امرأة خالية من العيوب، بينما تتقبل النساء شريك حياتهن كما هو. لكن الحقيقة أن الكمال وهم، وأن الجمال الحقيقي يكمن في العيوب التي تجعلنا بشراً. ربما لو أدرك بيجماليون ذلك مبكرًا، لما شعر بالإحباط حين تحولت جالاتيا إلى إنسانة حقيقية. يبقى السؤال: هل سيتعلم البشر من هذه القصة، أم سيظل الرجال يطاردون المثالية، بينما تتقبل النساء الحياة بكل ما فيها؟. مهما حاولت المرأة ستظل في دوامة مفرغة من التوقعات التى لا نهاية لها. صباح يراك قوية ومستقلة فيشعر وكأنك متسلطة، وآخر تكوني حنونة ومتفاهمة فيقول أصبحت ضعيفة و سهلة المراس. وكأن المطلوب أن تلعبي أدوار مستحيلة في مسرحية كتبها أحدهم لن يصفق لك في النهاية. فالحقيقة واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء وهي أن -البعض- لن يرضى أبداً. وذلك لا ينبع من نقصانك كأمرأة ولكن ببساطة أن -البعض- لا يريدون الإقتناع بأن المرأة لم تخلق لتعيش وتفنى لتحقيق أحلامهم الوردية. فلتعيشوا حياتكم دون إنتظار التصفيق من أحد.
لا يوجد تعليقات