منذ الأزل إرتبط الذكاء بالعقل بوصفه أداة التحليل والتفكير المنطقي والقادر على فك شفرة الألغاز واتخاذ القرارات والتخطيط والحفظ هم إحدى أهم وظائفه، لكن نشير للقلب بالعاطفة وتغليب المشاعر في مواجهة الأمور. هنا نسأل هل الذكاء مقصور على العقل فقط؟ أم أن القلب بمشاعره واحساسه يمتلك نوعاً آخر من الذكاء؟
يوجهنا العقل نحو ما يبدو صائباً بالمنطق بينما القلب يقودنا إلى ما نشعر أنه صحيح، عندما تواجهنا مواقف تحتاج إلى قرار لحظي ومصيري نجد أنفسنا أحياناً بين إختيارين: أحدهما يمليه العقل والآخر يناجيه القلب، كلاً منهم يلعب دوراً محورياً في توجيهنا وقد تكون القوة الحقيقية للذكاء في التوازن بينهم، ما لا يدركه الكثيرون أن القرآن الكريم أشار إلى مفهوم الذكاء العاطفي والذي هو مصدره القلب منذ أكثر من 1400 عام.
التفكير الإبداعي أو الذكاء العاطفي أو أياً كانت مسمياته يشير إلى علاقة متكاملة متجانسة تتمثل في الفهم والتفكير والتدبر بالفؤاد، كما أن القلب يعمل على تنظيم عملية الفهم والإدراك ولا زالت الأبحاث العلمية تجتهد في إثبات ذلك. قال الله تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ* ) [الحج: 46].
فالقلب هنا هو الذي يعقل ويبصر أيضاً وهذا لا يعني أن العقل شيء ثانوي أو عديم الفائدة ولا يمكن إنكار أهميته، وواجبنا نحو الإهتمام به وتنشيطه بإستخدام الأساليب العلميه لتطويره والعناية به كالقراءة والثقافة وغيرها، إلا أن الجدل حول الدور الذي يلعبه القلب في عملية الإدراك يتوافق مع ما توصلت إليه أحدث الأبحاث وهو إكتشاف أن القلب يحتوي على جهاز عصبي مستقل ومتطور يتكون من أكثر من 40.000 خلية عصبية وشبكة معقدة شديدة الإبداع من الناقلات العصبية التي تحمل الكثير من المعلومات عن شخصياتنا وتاريخنا وذاكرتنا فإن هذا الإكتشاف المذهل هو مزيد من التأكيد للسبق القرآني.
نجد في خطط المحتالين واللصوص المزورين ذكاءاً مفرطاً يجعلك تندهش لما يقومون به ولكن افعالهم تؤكد خفة عقولهم لأنهم بالمحصلة يوردون أنفسهم موارد التلف والهلاك من حيث لا يغني عنهم ذكاؤهم شيئاً، فلم يسألوا أنفسهم إن هربوا من العدالة والقضاء في الدنيا فكيف سيهربون من عقاب الآخرة؟
يقول الأديب مصطفى المنفلوطي: “كثيرًا ما يكون الذكاء الشديد داعية الجنون، حتى إنك لا تكاد ترى ذكيًّا من الأذكياء إلا وترى له في شؤونه وأطواره أحوالًا شاذة لا تنطبق على قانون من قوانين العقل، ولا قاعدةٍ من قواعد الطبيعة، وعندي أنَّ أكثر ما يصيب النوابغ والأذكياء من بؤس العيش وسوء الحال عائدٌ إلى ضَعْفٍ في عقولهم، ونقصٍ في تصوراتهم”.
الذكاء في رأس الإنسان كالسيف في يد الشجاع وكثيراً ما يضرب الشجاع رأسه بنفسه إذا كان طائشاً أهوج لا يملك نفسه في موقف من مواقف الحزن أو الغضب، لا يلزم أن كل عاقل ذكياً ولا كل ذكي عاقل، قال الله تعالى: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا].
أوضح بعض العلماء أن الذكاء هو القدرة على فهم تجارب الحياة بكفاءة والإستفادة منها عن طريق تحليلها واستخلاص مجموعة من الدروس وتخزينها في الذاكرة والقدرة على استدعائها عند اللزوم بكفاءة، أما العقل فهو القدرة على عدم الاستجابة للمؤثرات المحيطة بالإنسان ولكن هو القدرة على اصدار الفعل المناسب الذي ينبع من التفكير في المصلحة والضرر والموازنة بينهما. العقل هو -الرشد في التصرف- فكلما كان الإنسان أشد رشداً وتصرفاً كان أعقل.
هذا يعني أن الذكاء والعقل قد يجتمعان وقد يفترقان وأنه حال إفتراقهم يكون العقل أفضل وأنفع للإنسان من الذكاء، ما ضر أصحاب الكلام والمنطق والفلاسفة إلا حدة ذكائهم، الذكاء إذا لم يكن مقترناً بعقل وإيمان فالغالب أن صاحبه يهلك، كما نعلم أن كلمة العقل لم تذكر في القرآن ولا حتى لمرة، الذي يفقة ويعقل هو القلب، قال رسول ﷺ – أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ- فلم يقل ألا وهي الدماغ أو ألا وهي العقل.
من أشهر الأدلة التي يستند عليها القائلون من أن محل العقل هو الدماغ أن كل شئ يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل، نحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ لكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ، كم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ ويتأثر بتأثر الدماغ؟ كم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ من اختلال واقع في الدماغ؟، العقل خارج عن الدماغ ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ و من يقول أن العقل في الدماغ فقط وليس في القلب أبداً فإن قوله لا يمت للحقيقة بصلة.
إذا كان القلب في نظر الأطباء هو العضلة التي تنظم توزيع الدم حسب حاجة الجسم فإنه بالتحليل القرآني هو مصدر التوجية والقيادة في الإنسان الذي يضلة ويهديه، وأكبر دليل على هذا ما نراه اليوم في من يقوم بعملية زرع قلب صناعي نلاحظ عليه تغيرات جسيمة من ناحية المشاعر والأحاسيس، فإنه لم يعد يتأثر بأي مشاعر خوف أو رهبة ولا يعير إهتمامه بما حوله وهذا ما سبق به القرآن عندما أكد على أن القلوب تخاف وتوجل فقال الله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* ) [الأنفال: 2]. وكذلك جعل الله مكان الخوف والرعب هو القلب فقال سبحانه وتعالى: ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ* ) [الحشر: 2].
يبقى السؤال هنا هل نحتاج إلى العقل أكثر أم القلب؟ الحقيقة أن الحياة لا تقبل الإنحياز لطرف دون الآخر، العقل هو القائد الذي يرشدنا في لحظات الحيرة ويرتب الأفكار لتبدو واضحة وقابلة للتنفيذ بينما القلب هو النبض الذي يمنح تلك الأفكار روحاً و معنى فيحيلها إلى قرارات نابضة بالإنسانية والتعاطف. عندما يغلب العقل فقط قد نجد أنفسنا في عزلة نتخذ قرارات تبدو صحيحة على الورق لكنها تفتقر إلى الدفء الإنساني وعلى النقيض إذا استسلمنا للقلب وحده قد نجد أنفسنا نغرق في العواطف التي تعمي البصيرة أحياناً فإن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق الإنسجام بينهما حيث نمنح العقل مساحة لتحليل الأمور بدقة و نترك للقلب فرصته لإضفاء بصمته الحنونة، إن الذكاء الحقيقي ليس بتفوق أحدهم على الآخر بل في كيفية جمعهما معاً لصنع قرارت متزنة تجمع بين المنطق والعاطفة و في النهاية قد يكون أفضل ما نفعله هو أن نصغي بعمق لكليهما لأن الحياة تصبح أفضل حين نعيشها بعقل حكيم وقلب نابض.
لا يوجد تعليقات