الكلمات ليست مجرد أصوات تُطلق في الهواء، بل هي أدوات سحرية تصوغ المعاني، وتشكل العقول، وتعيد رسم الواقع كيفما نشاء. ومن بين هذه الأدوات، يظهر تحوير الألفاظ كحيلة لغوية تهدف إلى تلطيف وقع الكلمات، أو تجميل الحقيقة، أو حتى تزييفها أحيانًا. نحن البشر نلجأ إلى تحوير الألفاظ في مواقف شتى، لأسباب كثيرة، قد تكون إنسانية أو اجتماعية أو حتى سياسية. فحينما نرى أن الحقيقة قاسية، أو أن التعبير المباشر قد يكون جارحًا، نحاول التلاعب بالكلمات لتخفيف الأثر. ولكن هل نحن نفعل ذلك بدافع الرحمة؟ أم أننا نستخدم هذه الحيلة للهروب من مواجهة الواقع؟
لماذا نحور الألفاظ؟
تحوير الألفاظ ليس مجرد تصرف اعتباطي، بل هو انعكاس لطبيعة الإنسان الذي يحاول دائمًا تجنب الألم، سواء كان ألمًا نفسيًا أو اجتماعيًا. فنحن نعيش في عالم مليء بالمواقف الصعبة، والأخبار المؤلمة، والحقائق الجارحة، لذا نبحث عن طرق تجعل تقبل هذه الحقائق أيسر.
نستخدم طريقة تحوير الألفاظ للتخفيف من وقع الحقيقة المؤلمة .. حين يُقال لشخص إن فلانًا “رحل عن الدنيا”، بدلاً من القول إنه “مات”، فإن ذلك يُشعره بأن الأمر أقل حدة، وأكثر تقبلًا. كلمة “الموت” تحمل في طياتها رهبة، وقسوة، بينما “الرحيل” تبدو أخف، وربما أكثر شاعرية. كذلك، حينما نصف شخصًا بأنه “ممتلئ الجسم” بدلاً من “سمين”، أو نقول إنه “متواضع الجمال” بدلًا من “قبيح”، فنحن نحاول جعل الواقع أكثر قبولًا.
وأحياناً يكون الغرض من تحوير الألفاظ تحسين صورة الأشياء السلبية.. كثير من المؤسسات والشركات تعتمد على تحوير الألفاظ لجعل الأشياء القبيحة تبدو جميلة. مثلًا، لا يُقال عن الموظف الذي يتم فصله من عمله إنه “طُرد”، بل يقال إنه “أُعفي من منصبه” أو “تقاعد مبكرًا”. كذلك، لا تُسمى الحروب بأنها “حروب”، بل يتم تسميتها بـ”عمليات عسكرية”، والاحتلال قد يُطلق عليه “حماية”، والقمع قد يُبرَّر بأنه “إجراءات أمنية”. هذه الألاعيب اللغوية تجعل القبح يبدو وكأنه شيء مستساغ.
و قد نستخدمها للحفاظ على مشاعر الآخرين .. عندما يخطئ أحدهم، لا نقول له “أنت غبي”، بل نقول “لم تكن موفقًا”، وعندما نريد إنهاء علاقة مع شخص نقول “الأمر لا يتعلق بك، بل بي”، وعندما نريد رفض طلب شخص نقول “سأحاول” بدلًا من قول “لا”. هذه العبارات قد تبدو أكثر تهذيبًا، لكنها أيضًا قد تكون مضللة، لأنها تمنح الطرف الآخر أملاً زائفًا أو تصور الأمور بشكل غير دقيق.
أمثلة على تحوير الألفاظ في مختلف المجالات
١- في العلاقات الاجتماعية
حينما نقول عن شخص إنه “روحُه جميلة”، فهذا قد يكون تحويرًا لطيفًا لقولنا إنه “ليس جذابًا”. وعندما نصف فتاة بأنها “قوية الشخصية”، فقد نعني ضمنيًا أنها “حادة الطباع”، وعندما نقول عن طفل إنه “حركي” فربما نعني أنه “شقي للغاية”. هذا النوع من العبارات يساعد في تجنب الجرح المباشر، لكنه في الوقت نفسه قد يكون خادعًا.
٢- في السياسة
السياسيون هم أساتذة في فن تحوير الألفاظ، فهم لا يقولون “رفع الأسعار”، بل يسمونها “إصلاحات اقتصادية”، ولا يعترفون بوجود “بطالة”، بل يصفونها بأنها “فرص عمل قيد الدراسة”، ولا يقولون “زيادة الضرائب”، بل يطلقون عليها “إعادة هيكلة الدعم”. هذه التلاعبات بالكلمات تُستخدم لجعل القرارات الصعبة تبدو وكأنها لصالح الشعب، حتى لو كانت العكس تمامًا.
٣- في الإعلام
الإعلام أيضًا يستخدم تحوير الألفاظ لصياغة الأخبار بشكل يخدم أجندات معينة. فبدلًا من وصف شخص بأنه “قاتل”، قد يقال إنه “متهم”، وبدلًا من وصف حادثة بأنها “جريمة”، يتم تسميتها بـ”واقعة”. وعندما يحدث انفجار في مكان ما، يُقال إنه “حادث عرضي”، وعندما يتم قمع مظاهرة، يقال إنها “عملية ضبط الأمن”.
تحوير الألفاظ سلاح ذو حدين، فقد يكون إيجابيًا عندما يستخدم لحماية المشاعر وتخفيف الألم، لكنه قد يكون سلبيًا عندما يُستخدم لخداع الناس وتجميل القبح. فحينما نقول عن الفقير إنه “محدود الدخل”، فهذا قد يبدو ألطف، لكنه في نفس الوقت قد يخفي حجم المعاناة التي يعيشها. وحينما نصف السجون بأنها “مراكز تأهيل”، فإننا نُبعد النظر عن حقيقة القمع والظلم الذي قد يكون موجودًا فيها.
ختــاماً .. تحوير الألفاظ هو جزء من طبيعتنا البشرية، نحاول من خلاله تجميل الحقائق، وتخفيف وقعها، وأحيانًا الهروب منها. لكنه ليس دائمًا شيئًا إيجابيًا، فقد يتحول إلى أداة للتضليل، وإخفاء الحقائق، والتلاعب بالعقول. فبينما نحن نحاول جعل الحياة أكثر لطفًا بالكلمات، علينا أن ننتبه ألا نقع في فخ تجميل الباطل أو تزييف الواقع. لأن الحقيقة، مهما حاولنا أن نُغلفها بالكلمات، تظل في النهاية حقيقة، وسيأتي يومٌ تظهر فيه كما هي، بلا رتوش، وبلا تجميل.
لا يوجد تعليقات